
هل الذكاء الاصطناعي يقدر يعالج الفساد؟ هذا السؤال بات على كل لسان بعد أن قامت ألبانيا بخطوة جريئة بتعيين «ديلا» — وكيل ذكي مولود بالذكاء الاصطناعي — في منصب وزاري رقمي لمراقبة المناقصات العامة والحد من الرشاوى والمحسوبية. الفكرة على الورق مغرية: قواعد شفافة تُوضع من البداية، قرارات موضوعية بعيدة عن الهوى، وفي النهاية توقيع بشري يحسم ويتحمّل المسؤولية. لكن عند خروج القرار إلى النور انقسمت الآراء بين من يرى فيه نقلة إلى المستقبل ومن يتساءل: هل ينفع وزير بلا نبض؟ وهل الدستور سيحتمل وزيرًا ليس بإنسان؟
محمد فريد يكتب : وزير بلا نبض
القصة بدأت حين أعلن رئيس الوزراء أن «ديلا» ستتخلى عن دورها كمساعدة رقمية على منصة e-Albania لتتحول إلى ذراع رقابي يتولى ملف المناقصات منذ الإعلان وحتى الاختيار. الحلم بسيط: شفافية أعلى، إجراءات أسرع، وتدخل بشري أقل في مناطق الوجع التي لطالما سارت فيها الأمور بالعلاقات بدل القواعد.
المؤيّدون اعتبروا أن النظام جديد قد يفرز العروض بميزان واحد للجميع، يقلل الهدر، ويشد المستثمرين، ويطمئن الجمهور بأن المال يسير في مسارٍ سليم. أما المعارضون فقد رفعوا علامة استفهام كبيرة: إن أخطأت الخوارزمية فمن سيحاسب؟ القرار الصادر من صندوقٍ أسود كيف سندرسه أو نراجعه؟ وهل البيانات التي تدربت عليها «ديلا» خالية فعلاً من انحيازات قديمة قد تلون النتائج دون أن يلاحظه أحد؟
الواقع أن الطريق بين الحلم والإنجاز يحتاج إلى جسور أمان قبل أن نغمر الذكاء الاصطناعي بدورٍ حاسم في القرار؛ أن يكون معينًا لا بديلاً، عينًا ثالثة ترى تفاصيل كثيرة بسرعة، لكن القلب الذي يمضي ويتحمل المسؤولية يجب أن يظل بشريًا. أي تجربة من هذا النوع تحتاج إلى كتالوج واضح يكشف طريقة التقييم، ويفتح باب التظلم أمام جهة مستقلة، ويجري مراجعات دورية للبيانات والنماذج لالتقاط أي تحيّز متسرّب من الماضي. وإذا وضعنا كل الخيوط في نظام مركزي، فلابد من حصن سيبراني حقيقي يحمي نزاهة العملية من أي اختراق قد يقلب الطاولة في ثانية.
القانون هنا ليس رفاهية بل خط الأمان: تحديد صلاحيات “الوزير الرقمي” ومسؤوليته القانونية يمنع خلط الأوراق ويطمئن الرأي العام أن الابتكار ليس بوابة للفوضى. الأفضل أن نبدأ على مهل بمشروعات تجريبية محددة المدة نقيس فيها زمن التنفيذ، ودرجة الشفافية، وشكاوى الموردين، وتكلفة المعالجة. وإذا أظهرت الأرقام نجاحًا، نوسع الخطوة تدريجيًا من دون قفزات غير مدروسة.
نعود إلى سؤالنا: هل الذكاء الاصطناعي يقدر يعالج الفساد؟ يقدر أن يساعد، يضيق المساحات الرمادية، ويكشف أنماطًا قد تفوتها عين الإنسان وسط الزحام. لكن العصا السحرية لا تزال في يد الحوكمة: شراكة متوازنة بين قرار آلي بقواعد واضحة، ورقابة بشرية مسؤولة تراجع وتحاسب. تجربة ألبانيا لفتت الأنظار وجعلت السؤال موضوعًا على الطاولة؛ النجاح ليس في استبعاد الإنسان من المعادلة، بل في أن تخدم الآلة العدالة بينما يحافظ الإنسان على الثقة. إذا طُبِقت هذه المعادلة بدقة وحذر، قد تكون «ديلا» بداية قصة قابلة للتنفيذ، لا مجرد عنوان مثير في نشرة أخبار.